يونس الشوح
دكتور في الحقوق
:مقدمة
يعتبر التكييف الجنائي من أكثر المفاهيم تداولا على الساحة القانونية لدرجة أصبح معها بمثابة ضرورة ملحة تفرض نفسها على القضاء الجنائي أثناء نظره في الوقائع المعروضة عليه حيث يعمل على إخضاع هذه الأفعال للنص القانوني الواجب التطبيق، وهذا يعني أنه يفترض في
.التكييف الجنائي للوقائع ثبوت نسبتها للمتهم من خلال منح الوصف الصحيح لهذه الوقائع استنادا إلى الفصل الذي يحدد عناصر قيام هذه الأفعال والعقوبات المقررة لها في إطار مبدأ الشرعية الجنائية كواحد من الضمانات الممنوحة للأفراد خلال المنازعات القضائية الزجرية
ومن ثم فإذا كان المشرع ألزم الطرف الذي يقيم الدعوى العمومية أو يمارسها[1] ضرورة بيان الأفعال الجرمية موضوع صك الاتهام والإشارة إلى وصفها القانوني والنصوص المطبقة عليها، فإنه في نفس الوقت أعطى صلاحية إعادة التكييف للقضاء الجالس الشيء الذي يدل على
.أن هذا الأخير أصبح يختص بسلطة مراقبة العمل الذي تقوم به الجهات المختصة بالتكييف
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع لم يمنح صلاحية إعادة التكييف الجنائي للقضاء الجالس بشكل مطلق وإنما اقتصر فقط على غرفة الجنايات بصريح النص[2]، وهو الأمر الذي أثار العديد من النقاشات القانونية بخصوص مدى صلاحية القضاء الجنحي[3] في إعمال هذه الآلية وما
.لذلك من تأثير على حق الطعن أو على أمد التقادم حيث انقسمت الآراء الى اتجاه مؤيد وآخر معارض له
وانطلاقا من الإشكالية الرئيسية لهذا الموضوع والمتمحورة حول مدى إمكانية إعادة التكييف الجنائي من طرف القاضي الجنحي؟ فقد ارتأينا الحديث عن الضوابط القانونية المؤطرة لسلطة المحكمة الجنحية في إعادة التكييف في (المطلب الأول) ثم دراسة المقاربة القضائية لسلطة
.المحكمة الجنحية بإعادة التكييف في (المطلب الثاني)
.المطلب الأول: الضوابط القانونية المؤطرة لسلطة المحكمة الجنحية بإعادة التكييف
تعتبر مسألة إعادة التكييف الجنائي أو تصحيح الوصف القانوني للأفعال المعروضة على القضاء نقطة خلاف جدية على المستوى الفقهي والتشريعي والقضائي الشيء الذي يجعل القضاء الجنائي عموما والقضاء الجنحي على وجه الخصوص أمام تحد صريح حول سلطته في إعادة التكييف وتجسيد مبادئ العدالة الجنائية على أرض الواقع في تناغم تام مع مختلف الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون من أجل ضمان عدم إفلات الجناة من الجزاء الجنائي، وبالتالي فصلاحية القضاء الجنحي بإعادة تكييف الوقائع ليست مطلقة وإنما مشروطة باحترام مجموعة من الضوابط التي تحكم سلطة المحكمة في إعمال هذه الآلية، أي أن القاضي الجنحي ليس حرا في طريقة تكييفه وتعامله مع القضايا المعروضة أمامه وإنما هو ملزم باحترام مجموعة من المبادئ المرتبطة أساسا بمبدأ الشرعية الجنائية من الناحيتين الموضوعية والإجرائية[4]
غير أن مناقشة هذه الضوابط التي تحكم سلطة المحكمة الجنحية في إعادة التكييف تتطلب أساسا تحديد المفهوم القانوني لهذا المبدأ في (الفقرة الأولى) ورصد الأسس المتحكمة في إعادة التكييف في الميدان الجنحي في (الفقرة الثانية) ثم التوقف عند مناقشة تباين المواقف الفقهية
.والتشريعية بخصوص منح الصلاحية للمحكمة الجنحية بإعادة التكييف في (الفقرة الثالثة)
.الفقرة الأولى: المفهوم القانوني لمبدأ إعادة التكييف الجنائي
يعتبر التكييف القانوني للجريمة أو إعادة التكييف أحد أهم الركائز التي ينبني عليها الحكم أو القرار الجنائي حيث يختلط في هذه المرحلة عنصر الواقع بالقانون ويجد خلالها القاضي نفسه أمام مجموعة من الوقائع يجب عليه إيجاد القاعدة القانونية المناسبة لها والنص الواجب التطبيق
.بشأنها سواء عند وضع التكييف الأولي أو عند إعادة التكييف خلال مرحلة المحاكمة
وعلى الرغم من أهمية هذا المبدأ إلا أن تحديد مفهومة بشكل دقيق ظل محل اختلاف حيث يعرف على أنه “عملية قانونية تهدف إلى بيان الوقائع التي استخلصت منها نتيجتها إما بالإدانة أو البراءة وتحديد العناصر القانونية المكونة للجريمة وما يرافقها من ظروف مؤثرة في العقوبة
.من حيث التشديد أو التخفيف”[5]، ويعرف أيضا بأنه “بحث السلطة القضائية في الوقائع والأفعال المعروضة عليها وإخضاعها للتوصيف من أجل استخلاص النص القانوني المطبق عليها”[6]
كما تعرف هذه الآلية على المستوى المقارن بأنها “تحديد العلاقة بين الواقعة المعروضة على القضاء وبين قانون العقوبات وذلك بمنح هذه الواقعة إسما قانونيا ينطوي على نتيجة ملازمة له تهدف إلى تطبيق العقوبة المحددة لتلك الجريمة”[7]، وعلى المنوال ذاته يعرف كذلك بأنه
“العملية القانونية التي يقوم فيها القاضي بالبحث عن الإسم القانوني الذي يتعين إضفاؤه على الفعل الذي دخل في حوزته ليتخذ هذا الفعل الإسم والوصف القانوني الخاص به أي أن التكييف أو تعديل التكييف هو وصف الفعل الجرمي من خلال النص الجنائي الذي يعاقب عليه”[8]
واستنادا إلى هذه المفاهيم يمكن القول بأن المقصود بآلية التكييف الجنائي أو إعادة التكييف هو ذلك الاختصاص الممنوح للسلطة القضائية بمختلف مكوناتها من أجل بيان حكم القانون وما يقوم به القاضي عندما يقرر بأن واقعة معينة تشكل جريمة محددة، كما يشمل تحديد طبيعة هذه
.الجريمة هل تندرج ضمن خانة الجنايات أو الجنح أو المخالفات، وهو بذلك يتضمن إرجاع واقعة الدعوى إلى أصلها القانوني الواجب التطبيق
وتجدر الاشارة إلى أن هناك فرق بين التكييف القانوني والتكييف القضائي، فالتكييف القانوني: هو تحديد الفعل الجرمي المرتكب من طرف الجاني مع تحديد النص القانوني الواجب التطبيق استنادا إلى مبدأ الشرعية الجنائية[9] وهذا التكييف بدوره ينقسم إلى قسمين تكييف قانوني
.للجريمة ويقصد به جعل الجريمة ضمن زمرة الأفعال التي تصنف في خانة الجنايات أو الجنح أو المخالفات[10]، وتكييف قانوني للواقعة والمقصود به تحديد هذه الوقائع ضمن الإسم أو الوصف الذي يعطيها لها القانون[11]
.أما التكييف القضائي: فهو ذلك العمل الذي يقوم به القاضي أثناء مناقشته للقضية مع أطرافها بالمطابقة بين الواقعة الجرمية المرتكبة وتحديد الوصف والفصل القانوني الواجب التطبيق وذلك بتعديل وتغيير الوصف الذي أعطته جهة الاتهام للفعل المعروض عليه[12]
وبالتالي فإعادة تكييف الجريمة أو تعديل الوصف الجنائي للفعل المعروض على المحكمة هو ذلك الإجراء الذي تقوم به المحكمة يهدف إعطاء هذا الفعل الجرمي وصفه وتكييفه الصحيح طبقا للقانون حيث ترى بأن الوصف الذي تعطيه المحكمة أكثر ملاءمة للفعل المعروض عليها من
.الوصف الممنوح له من طرف جهة المتابعة
وعموما، بالرغم من تعدد المفاهيم والتعاريف في تحديد التكييف وإعادة التكييف الجنائي إلا أنها جميعها تهدف إلى قيام المحكمة بإسقاط القاعدة القانونية المناسبة على الواقعة المعروضة أمام المحكمة بالشكل الذي يجعل حكمها سليما وغير معرض للنقض والإبطال، بمعنى أن التكييف الذي تقوم به جهة المتابعة لا يمكن اعتباره تكييفا ووصفا نهائيا على اعتبار أنه يمكن تغييره وتصحيحه من طرف الجهة القضائية التي تحال عليها القضية، كما تجدر الإشارة إلى أن سلطة المحكمة بإعادة التكييف لأن هذه الصلاحية ليست مطلقة وإنما تحكمها مجموعة من المبادئ
.والأسس
.الفقرة الثانية: مبادئ وأسس نظرية إعادة التكييف في الميدان الجنحي
إذا كانت إشكالية إعادة التكييف في الميدان الجنائي ولا سيما في شقه الجنحي تتسم بأهمية كبرى في مجال المحاكمات الجنائية لدرجة جعلت البعض يعتبر أن إعادة التكييف وتصحيح وتعديل الأوصاف الجنائية التي أعطتها جهة الاتهام للأفعال موضوع الدعوى بمثابة واجب يفرض نفسه على قضاة الأحكام في إطار المحاكمات العادلة[13]، فذلك لا يعني أن القاضي الجنائي حر في طريقة تكييفه لوقائع الدعوى بل إنه ملزم باحترام مجموعة من المبادئ المرتبطة أساسا بمبدأ الشرعية الجنائية الموضوعية والإجرائية، وعليه فسلطة المحكمة الجنحية في إعادة التكييف تحكمها مجموعة من الضوابط غايتها توصيف الوقائع المعروضة أمامها في نطاق معين من أجل تحقيق أهداف الأمن القضائي بجمع مقوماته، وتبعا لذلك لا يمكن تصور إعادة التكييف إلا يتوافر هذه المبادئ والأسس التي يمكن إجمالها في النقط الآتية
:التقيد بحدود الدعوى العمومية وعدم التوسع في إعادة التكييف
يقوم هذا المبدأ على أساس فصل اختصاصات سلطة المتابعة عن سلطة قضاء الحكم بحيث يجب على المحكمة أثناء نظرها في الدعوى أن تتقيد بحدود الدعوى المرفوعة أمامها سواء بالنسبة للوقائع أو بالنسبة للأشخاص المتهمين بارتكابها[14]، لأنه لا يجوز للمحكمة أن تبث في
.وقائع أخرى غير معروضة عليها ولا أن تحاكم أشخاصا غير متابعين أمامها بعلة سلطتها في إعادة التكييف
فعلى سبيل المثال إذا كانت المحكمة تنظر في قضية تتعلق الضرب والجرح وتبين لها أثناء مناقشة القضية أن الضحية تعرض للسرقة من طرف شخص آخر كان يرافق المتهم في هذه الحالة لا يمكن للمحكمة محاكمة المتهم الماثل أمامها بجنحة السرقة لأن واقعة السرقة غير
.معروضة على أنظار المحكمة وبالتالي لا يمكن لها إضافة متابعة أخرى لم تسطر من الأصل كما لا يمكنها كذلك محاكمة الشخص الذي كان يرافق المتهم من أجل هذه الجنحة طالما أنه ليس متابعا في الدعوى من الأصل
:احترام الاختصاص النوعي للمحكمة الجنحية
إذا قررت المحكمة الجنحية أثناء نظرها في الدعوى المعروضة أمامها التصريح بإعادة تكييف الأفعال الجرمية موضوع صك الاتهام وجب عليها أن تتقيد بحدود الدعوى الجنائية في إطار احترام الاختصاص النوعي، ويجد هذا المبدأ سنده في مقتضيات المادة 390 من قانون
.المسطرة الجنائية الذي ينص على أنه إذا لم يكن للفعل وصف جنحة أو مخالفة تدخل في اختصاص المحكمة فإنها تصرح بعدم اختصاصها
وهذا يعني أنه إذا كانت المحكمة الجنحية تنظر في وقائع محددة وتبين لها بأن بعض الأفعال تكيف قانونا بأنها جناية وليست جنحة فإنه يتعين عليها التصريح بعدم الاختصاص للبث في تلك الوقائع لأن الاختصاص ينعقد لغرفة الجنايات، ومثال ذلك أنه “أثناء نظر المحكمة الجنحية في
.قضية تتعلق بالضرب والجرح باستعمال السلاح وتبين لها خلال مناقشة القضية توافر مجموعة من وسائل الاثبات مفادها أن المتهم ركب سيارته وقام بدهس الضحية عدة مرات الشيء الذي اعتبرته المحكمة محاولة قتل وصرحت بعدم اختصاصها نوعيا للبت في الدعوى”[15]
ولا يقتصر احترام مبدأ الاختصاص النوعي في حالة الجنايات والجنح بالنسبة للمحكمة الجنحية ولكن ينصرف كذلك إلى المخالفات أيضا إذا كان النظام العام يقتضي ضرورة إحالة هذه المخالفات على جهة قضائية معينة حيث جاء في أحد قرارات النقض بأن “مخالفة عرقلة الطريق
.العمومية من اختصاص محاكم الجماعات والمقاطعات بمقتضى ظهير 15/07/1974 الذي هو قانون خاص، وبالتالي فالنظام العام يقتضي إحالة القضية على الجهة المختصة”[16]
وعلى سبيل المثال “أثناء نظر المحكمة في قضية تتعلق بانتزاع عقار من حيازة الغير طبقا للفصل 570 من القانون الجنائي تبين لها خلال مناقشة القضية أن الفعل الذي ارتكبه المتهم ليس هو الفعل المسطر في صك الاتهام وإنما هو مخالفة تعييب جزء من طريقة عمومية طبقا للفقرة السادسة من المادة 18 من القانون رقم 10-42 المتعلق بقضاء القرب في هذه الحالة قضت المحكمة بإعادة تكييف الفعل موضوع المتابعة من جنحة انتزاع عقار من حيازة الغير إلى مخالفة تعييب جزء من طريق عمومية وصرحت بعدم اختصاصها نوعيا للبث في الدعوى لأن
.الاختصاص في هذه الحالة ينعقد أساسا لأقسام قضاء القرب[17]
.وهذا يعني أنه إذا تبين للمحكمة الجنحية بعد تقريرها في الدعوى المعروضة أمامها إعادة التكييف وأن الوصف الجديد للأفعال لا يدخل ضمن اختصاصها وجب عليها التصريح لزوما بعدم اختصاصها للبت في الدعوى وإحالة الملف على من له الحق النظر
:عدم التقييد بتكييف جهة الاتهام
إن سلطة المحكمة الجنحية في إعادة التكييف تقوم بالأساس على عدم التقييد بالتكييف الذي تعطيه جهة الاتهام للفعل الجرمي حيث يرى البعض في هذا الإطار أنه “يمكن للمحكمة اللجوء إلى تعديل الوصف القانوني الذي منحته سلطته المتابعة للوقائع المعروضة عليها وذلك بإحلال
.وصف جديد محله”[18]
وهذا يدل على أن المحكمة غير ملزمة بالتقيد بالوصف أو التكييف الممنوح من طرف جهة المتابعة على اعتبار أن قاضي الحكم يعتبر سيد الملفات المعروضة على أنظاره ولا يقيده في سلطته إلا التطبيق السليم والعادل للقانون وأن محكمة الموضوع غير ملزمة بالوصف الذي تعطيه
.النيابة العامة أو قاضي التحقيق أو الغرفة الجنحية[19]
ويجد هذا المبدأ سنده في الاجتهادات المتواترة لمحكمة النقض حيث جاء في أحد قراراتها “أن محكمة الموضوع غير ملزمة بالوصف القانوني المقرر من طرف جهة المتابعة ولها أن تغير هذا الوصف من جنحة السرقة إلى جنحة محاولة السرقة بعد توضيح العناصر الأساسية لهذا
.الفعل وظروفه”[20]، وأيضا في قرار آخر أنه “يحق لمحكمة الموضوع تغيير الوصف الذي تعطيه النيابة العامة للفعل الجرمي موضوع المتابعة وبالتالي فهي غير ملزمة بذلك الوصف ولها ان تغيره وتعدله وتعيد تكييف الوقائع شريطة تعليل قناعتها”[21]
الاعتماد على الوصف الأخف ونفس زمره الافعال في إعادة التكييف
يكاد يجمع الفقه الجنائي على أن لجوء محاكم الموضوع لإعادة التكييف في حالة بقاء الأفعال الجرمية خاضعة لاختصاصها على نقطتين أساسيتين أولهما أن يتجه الوصف الجديد الذي أعطته المحكمة في الاتجاه الأخف وليس الأشد[22] بالإضافة إلى أنه يجب أن يكون الوصف
.الجديد يدخل ضمن نفس زمرة الجرائم الموصوف بها الوصف الذي أعطته سلطة المتابعة[23]
ويعني ذلك أنه لا يمكن لمحكمة الموضوع أن تعيد تكييف الفعل المعروض أمامها إلى وصف آخر أعطاه المشرع الجنائي عقوبة أشد من الوصف الأول ولو كان هذا الوصف الجديد ينتمي إلى نفس زمرة الجرائم على اعتبار أن إعادة التكييف في هذه الحالة سيكون فيها إضرار بالمتهم
.المتابع، وتجدر الإشارة إلى أن محكمة النقض قررت هذا المبدأ قضائيا لما اعتبرت أنه من حق المحكمة تغيير وصف الوقائع وإعطائها التكييف القانوني الصحيح طبقا للقانون ما دامت لم تشدد من وضعية الشخص المتابع أمامها[24]
فعلى ومثال ذلك إذا كان الشخص المتابع يحاكم من أجل ارتكاب جريمة خيانة الأمانة طبقا للفصل 547 من القانون الجنائي التي حدد لها المشرع عقوبة تصل إلى ثلاث سنوات في الفصل المذكور وتبين خلال البحث في القضية أن المتهم ارتكب جريمة السرقة طبقا للفصل 505 من
.نفس القانون والتي تصل عقوبتها إلى خمس سنوات في هذه الحالة لا يمكن القول بإعادة التكييف لأن الأمر سيكون مخالفا لضوابط هذا المبدأ ولو أن الجريمتين معا يدخلان في زمرة الجنح المتعلقة بالأموال المنصوص عليها في الباب التاسع من الكتاب الثالث من القانون الجنائي
لكن، وعلى الرغم من الإجماع بخصوص هذا المبدأ إلا أن هناك من اعتبر أن المحكمة الجنحية لها كامل الصلاحية في إعادة التكييف في الاتجاه المعاكس من العقوبة الأخف إلى الأشد نظرا لأن المشرع في المادة 368 من قانون المسطرة الجنائية لم يقتصر على إعادة التكييف من
.الأشد إلى الأخف بل إن المادة المذكورة تستوعب تغيير الوصف بكل أنواعه وصوره وفي جميع الاتجاهات بما في ذلك سلطة القضاء الجنحي بإعادة التكييف من الأشد إلى الأخف والعكس وذلك في إطار تحقيق العدالة الجنائية[25]
:إشعار المتهم بالتكييف الجديد
يعرف هذا المبدأ اختلاف فقهيا وقضائيا نظرا لأن رئيس الجلسة أثناء مناقشته للقضية يشعر المتهم بالتهمة التي وجهتها له سلطة المتابعة[26] وبالتالي فالإشكال يثار بخصوص إعادة التكييف هل تشعر المحكمة المتهم بالوصف الجديد ومناقشته مع المتهم أم أنها لا تشعره بذلك، وفي
:هذه الحالة يمكن الوقوف عند رأيين
الاتجاه الأول: يرى أنه إذا قررت المحكمة إعادة التكييف فعليها أن تمنح آجالا جديدة للمتهم لإعداد دفاعه بخصوص الوصف الجديد الذي يختلف عن الوصف الأول من حيث الأركان المكونة له حتى ولو كان يدخل في زمرة نفس الأفعال وذلك ضمانا للحق في الدفاع[27]، كما عبر البعض أن المحكمة ملزمة بضرورة تنبيه المتهم وإشعاره بالوصف الجديد تحت طائلة البطلان ما دام هذا الأخير سيحاكم من أجل فعل جديد لم يشعر به أثناء المحاكمة[28]
والملاحظ أن العمل القضائي على مستوى قضاء النقض يساير هذا الاتجاه لما اعتبر أن المتهم توبع من أجل جنحة النصب وتمت إدانته من أجل التصرف في مال متروك بسوء نية دون أن يوجد بملف القضية أي دليل على أنه أشعر بالوصف الجديد الذي أدين من أجله، الأمر الذي يعتبر معه اخلالا بحقوق الدفاع[29]
أما الاتجاه الثاني: فلا يرى سببا للقول بإشعار المتهم بالوصف الجديد بعد إعادة التكييف لأن مناقشة القضية من طرف المحكمة تكون قد تناولت جميع الوقائع المحيطة بالدعوى وأن إعادة التكييف تنصب على نفس الوقائع وبالتالي عدم إشعار المتهم بتطبيق هذه المكنة ليس به أي اخلال بحق الدفاع[30]
وفي هذا السياق ذهب القضاء المقارن إلى تأييد هذا الاتجاه بالقول إنه لا مجال لإشعار المتهم بتغيير الوصف بعد حجز الدعوى للحكم لأن المحكمة لا تقوم بحجز القضية للمداولة إلا بعد التأكد من توافر جميع عناصر الاتهام من حيث الإدانة أو البراءة وبالتالي فمناقشة القضية مع المتهم بجميع وقائعها وظروفها لا يكون معها أي إخلال بحق الدفاع أو بطلان في الإجراءات”[31]
وعموما، يمكن القول بأن الحديث عن اختصاص المحكمة الجنحية للقول بإعادة التكييف لا يثير كل هذا اللغظ في نظرنا على اعتبار أن الأصل في إعمال هذه الآلية يستند إلى التخفيف وليس إلى تشديد العقوبة كما هو الشأن بالنسبة لغرفة الجنايات وبالتالي لا مجال للقول بإشعار المتهم بإعادة التكييف ما دامت المحكمة ناقشت جميع الوقائع المنسوبة للمتهم وأنها استشفت الوصف الجديد للفعل بعد مناقشة القضية واختلائها للمداولة، لذلك لا يمكن عمليا إخراج الملف من المداولة أو التأمل قصد إشعار المتهم بإعادة التكييف وإمهاله من أجل إعادة مناقشة القضية معه على ضوء الوصف الجديد نظرا لأنه في هذه الحالة قد تطول الاجراءات خاصة إذا قام أحد أطراف الدعوى بالطعن فيه أمام محكمة أعلى درجة، كما أنه إذا كانت هذه المبادئ المؤطرة لقاعدة إعادة التكييف تعرف شبه إجماع فقهي وقضائي فالسؤال يثار بخصوص موقف الفقه
.والتشريع من أحقية المحكمة الجنحية في إعادة التكييف
.الفقرة الثالثة: تباين المواقف من منح صلاحية القضاء الجنحي بإعادة التكييف
ليس هناك شك في أن سلطة المحكمة الجنحية في توصيف الفعل المعروض عليها توصيفا سليما من الناحية القانونية تحقق الغرض من سن التشريع الجنائي المتجسد في تحقيق الردع الجنائي بنوعية العام الخاص وذلك بهدف إقامة الموازنة بين حقوق المجتمع الرامية إلى ضمان
.الاستقرار والأمن وبين حقوق الأفراد في جبر الأضرار اللاحقة بهم من جراء الاعتداء الواقع عليهم
إلا أن هذه القاعدة لقيت تعارضا وتضاربا فقهيا وتشريعيا، فإذا كانت محكمة الجنايات لا تثير إشكالا بخصوص سلطتها في إعادة التكييف نظرا لأن المشرع الجنائي منحها هذا الحق بصريح النص طبقا للمادة 432 من قانون المسطرة الجنائية فإن صلاحية المحكمة الجنحية في إعادة
.التكييف تبقى محل نظر ونقاش كبير بسبب غياب نص قانوني يمنح القاضي الجنحي هذه الإمكانية بصريح العبارة، فما هي أسباب كل فريق في هذا السياق
الاتجاه الأول المعارض لمنح صلاحية إعادة التكييف للمحكمة الجنحية: يرى أنصاره بأن الإجراءات الجنائية لا تحتمل التوسع في التفسير كما أنها لا تقبل القياس وأن المشرع الجنائي كان واضحا ودقيقا في منح هذه الإمكانية لغرفة الجنايات دون غيرها من الهيئات القضائية[32]،
.وبالتالي فمبدأ الشرعية الجنائية الاجرائية يفرض التقييد بحرفية النص لأن المادة 432 من قانون المسطرة الجنائية نصت صراحة على غرفة الجنايات مما يعني أنها الجهة الوحيدة المخول لها صلاحية إعادة التكييف لذلك لا يجب التوسع في نفس هذا النص
وفي نظر أنصار هذا الاتجاه أن المشرع لو أراد تمكين المحكمة الجنحية من هذه الصلاحية لنص على ذلك صراحة، أما تطاول القضاء الجنحي على ممارسة إمكانية إعادة التكييف من شأنه أن يخرج عن عنصر الحياد المفروض في القضاء، على اعتبار أن المشرع قد قيد حرية محاكم الدرجة الأولى في تغيير الوصف القانوني بحيث لا يكون أمامها إذا ما تبت لديها عدم انطباق الوصف القانوني على الأفعال المعروضة عليها سوى الحكم بعدم الاختصاص إذا كانت الأفعال تشكل جناية وذلك حيث مقتضيات المادة 389 من قانون المسطرة الجنائية، أما إذا
.تبين لها أن الوصف خاطئ فليس لها أي حل سوى الحكم بالبراءة، وبالتالي فدور القاضي الجنحي يبقى قاصرا على تطبيق القانون على التهمة الذي دخلت حوزته وليس له سلطة تعديل وتغيير وصف الجريمة
لكن من وجهة نظرنا يبدو أن هذا الاتجاه المعارض لمنح صلاحية إعادة التكييف للقضاء الجنحي لا يستقيم مع مقومات العدالة الجنائية نظرا لأنه يساهم في إفلات الجناة من العقاب الجنائي لمجرد تسرب خطأ في وصف الجريمة من طرف جهة المتابعة، كما أنه يساهم في إلحاق ضرر
.آخر بالضحايا إضافة إلى تضررهم من الجريمة ألا وهو الحق في المطالبة بالتعويض في إطار الدعوى المدنية التابعة
أما الاتجاه الثاني المؤيد لصلاحية المحكمة الجنحية بإعادة التكييف: فيرى أنصاره أن المحكمة الجنحية لا تكون مفيدة بشكل مباشر بالتكييف الذي أعطته جهة المتابعة للوقائع نظرا لأنه عند إحالة القضية عليها يكون دورها الأساسي هو المحاكمة العادلة للمتهم[33]، أي أنها تكون ملزمة بالتطبيق السليم والعادل للقانون بما في ذلك التصرف في تكييف الوقائع موضوع المتابعة ووضعها في إطارها المناسب[34]، وبالتالي فهي لا تتقيد بنوعية المتابعة وإنما تنظر في النازلة المعروضة أمامها وتصدر حكمها فيها وفقا للتكييف الذي اقتنعت به اقتناعا صميما وتراه
.مناسبا لهذه الوقائع وفقا للضوابط المشار إليها أعلاه
والملاحظ بأن هذا الاتجاه يأخذ بالمفهوم الواسع للمادة 432 من قانون المسطرة الجنائية بعلة أن المشرع لم يشترط غرفة الجنايات فقط بشكل حصري وإنما يستفاد كذلك أنه منح الصلاحية للمحكمة الابتدائية شأنها في ذلك شأن غرفة الجنايات والتي لها الحق في تعديل وتغيير الوصف القانوني المرفوع إليها عن طريق الإحالة ولكن بالنسبة للجرائم التي تنتمي إلى زمرة واحدة فإذا تبين للمحكمة الابتدائية أثناء تفحصها للوقائع أن الوصف المعطى من جهة الإحالة لا ينطبق على الأفعال المعروضة عليها ولكنه ينطبق على جريمة أخرى مماثلة وفي نفس الزمرة، ففي هذه الحالة لا تتقيد بالتكييف القانوني الوارد في قرار المتابعة ولها حق تغيير الوصف القانوني[35]
ويستند هذا التيار على التجارب المقارنة التي أسندت هذه الصلاحية للقضاء الجنحي بصريح النص حيث نجد المشرع الفرنسي ألزم المحكمة الجنحية بضرورة البحث في التكييف القانوني للواقعة المعروضة أمامها قبل إصدار الحكم بشأنها[36]، وهو التوجه نفسه الذي ينهجه المشرع المصري أيضا الذي ينص على أنه يجب على القاضي إضفاء التكييف القانوني السليم على جميع الأفعال المعروضة عليه[37]
في هذا السياق وفي إطار ملاءمة المشرع المغربي لمنظومته التشريعية مع النصوص المقارنة نلاحظ بأن مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائي حسم النقاش حول صلاحية القاضي الجنحي في إعادة تكييف الوقائع الاجرامية المعروضة عليه وذلك عبر التنصيص على هذه الإمكانية في المادة 386-1 من مشروع هذا القانون[38]، وفي نظرنا يعتبر هذا الاتجاه صائبا لأن من شأنه أن يساهم في تحقيق العدالة الجنائية وعدم إفلات الجناة من العقاب، لذلك كان القضاء الجنحي سباقا في إقرار هذا الاجتهاد بجعل إمكانية إعادة التكييف عرفا إجرائيا وموضوعيا لا محيد
.عنه في المحاكمات
.المطلب الثاني: المقاربة القضائية لسلطة المحكمة الجنحية بإعادة التكييف
تقتضي قواعد الإنصاف والعدالة الجنائية أن تقوم المحاكم الزجرية بمختلف درجاتها بتحري الدقة أثناء نظرها في القضايا المعروضة أمامها وعليها أن تبحث في الأوصاف والتكييفات التي تعطيها جهة الاتهام للأفعال الجرمية قبل إصدار الأحكام بشأن هذه الأفعال[39]، وبالتالي
.فالقاضي الجنحي ملزم بالتحري الدقيق في عمله لتفادي الوقوع في الخطأ أو عدم التمادي في الخطأ وذلك بالقيام بجميع الإجراءات التي تساهم في تحقيق مقاصد وغايات المشرع وفقا لضوابط قانونية محددة
.وإذا كانت صلاحية غرفة الجنايات بإعادة التكييف لا تثير أي إشكال نظرا لحسم هذه المسألة تشريعيا بصريح النص، فإن الإشكال يطرح هنا بخصوص مدى تطبيق هذه الإمكانية من طرف المحكمة الجنحية وما يترتب عن ذلك من آثار على مستوى الدعوى الجنائية
ومناقشة هذه المقاربة القضائية لسلطة المحكمة الجنحية بإعادة التكييف سنعمل على رصد دور العمل القضائي في تكريس نظرية إعادة التكييف على المستوى الجنحي في (الفقرة الأولى) ثم بسط حدود الرقابة القضائية على اعمال هذه الآلية في (الفقرة الثانية) على أن نتوقف عند
.الآثار المترتبة عن إعادة التكييف في (الفقرة الثالثة)
.الفقرة الأولى: دور العمل القضائي في تكريس نظرية إعادة التكييف على المستوى الجنحي
يعتبر القاضي المسؤول عن الملفات المعروضة على أنظاره ولا يقيده في سلطاته إلا التطبيق السليم والعادل للقانون، وقضاة الأحكام بما فيهم القضاة المكلفين بالبت في القضايا الجنحية غير ملزمين بالوصف الذي أعطته جهة المتابعة وأنه بإمكانهم تغيير هذا الوصف بما يتماشى مع
.متطلبات العدالة الجنائية لضمان عدم إفلات الجناة من الجزاء الجنائي
والقضاء الجنحي أثبت أحقيته في إعادة تكييف الوقائع الجرمية المعروضة عليه من خلال العديد من الأحكام على الرغم من عدم وجود نص قانوني صريح يخول له هذه الإمكانية، نظرا لأن المشرع الجنائي أكد هذه الصلاحية للمحاكم الجنحية بطريقة غير مباشرة في العديد من النصوص الإجرائية المتفرقة في قانون المسطرة الجنائية، لدرجة أصبح معها هذا التوجه القضائي عرفا لا محيد عنه في المحاكمات القضائية خاصة بعد أن أجازت محكمة النقض هذه الإمكانية في العديد من المناسبات، الشيء الذي جعل المشرع يعتمد على هذا الاجتهاد القضائي لسد
.الفراغ التشريعي الذي يعاني من قانون المسطرة الجنائية حيث أعطى الصلاحية للقاضي الجنحي بإعادة التكييف حسب الثابت من مقتضيات المادة 1.386 من مشروع قانون المسطرة الجنائية
هذا يعني أن العمل القضائي له دور رئيسي في تكريس نظرية إعادة التكييف سواء على المستوى الجنائي أو الجنحي، وبالتالي ما يهمنا في هذا الموضوع هو عمل المحاكم الجنحية التي يتبين من خلال بعض أحكامها أنها لا تتنازل عن سلطتها في إعادة التكييف للوقائع المعروضة عن
.أنظارها وذلك بالنسبة للأفعال التي تنتمي إلى زمرة واحدة من الجرائم، وفي هذا السياق سنقف عند بعض توجهات العمل القضائي على سبيل المثال لا على سبيل الحصر في محاولة لإبراز هذا الدور الذي تقوم به المحاكم الجنحية في تكريس قاعدة إعادة التكييف
ومن نماذج قيام المحكمة الجنحية بإعادة التكييف نجد حكما جاء فيه أنه “لما كانت جهة الاتهام تابعت المتهم من أجل ارتكابه جنحة النصب طبقا للفصل 540 من القانون الجنائي والحال أنه تبث للمحكمة أن العناصر التكوينية لهذه الجنحة غير متوفرة في النازلة على اعتبار أن المتهم
.تسلم مبلغا ماليا من المشتكي من أجل تنفيذ عقد شفوي بين الطرفين ثم رفض تنفيذ هذا الالتزام بدون عذر مشروع مما يكون مرتكب لجنحة عدم تنفيذ عقد طبقا للفصل 551 من نفس القانون
وحيث إن المحكمة ملزمة قانونا بتفعيل المقتضيات القانونية الواجبة التطبيق وأنها غير ملزمة بالوصف الذي أعطته النيابة العامة للفصل موضوع المتابعة، فإنها قررت التصريح بإعادة تكييف الفعل موضوع صك الاتهام من جنحة النصب إلى جنحة عدم تنفيذ عقد على اعتبار أن كل
.من الجريمة تدخل في زمرة الجنح المتعلقة بالأموال بالإضافة إلى أن الوصف الجديد أفرد له المشرع جزاء جنائيا أخف من الجزاء المخصص للوصف الأصلي مما تكون معه شروط وضوابط إعادة التكييف متوفرة في النازلة” [40]
وعلى نفس التوجه أعادت المحكمة الجنحية تكييف الفعل المنسوب للمتهم من فاعل أصلي إلى مشارك حينما نصت على أنه “ولو على فرض أن المتهم لم يقم مباشرة بتنفيذ جنحة زراعة القنب الهندي إلا أنه ثبت للمحكمة من خلال مناقشة القضية أنه ساعد الفاعل الأصلي في الأعمال التحضيرية لارتكاب هذه الجريمة، وأن المحكمة ملزمة بالتطبيق السليم للقانون وغير ملزمة بالوصف الذي أعطته النيابة العامة لفعل المتابعة، ونظرا لتوافر شروط إعادة التكييف قررت المحكمة إعمال هذه الآلية بإدانة المتهم من أجل المشاركة في زراعة القنب بدلا من الوصف
.الممنوح له من طرف جهة الاتهام طبقا للفصل 129 من القانون الجنائي والفصل الأول من ظهير 24/05/1954″ [41]
كما جاء في حكم آخر أن ادعاء المشتكي بكون المتهم قام بتعييب طريق رجلية تؤدي إلى منزله وأن جهة الاتهام تابعت هذا الأخير من أجل ارتكابه جنحة انتزاع عقار من حيازة الغير طبقا للفصل 570 من القانون الجنائي يعتبر سببا كافيا للقول بإعادة تكييف هذا الوصف وذلك بجعل
.الفعل المنسوب للمتهم يوصف قانونا بأنه مخالفة تعييب جزء من طريق عمومية طبقا للفقرة 6 من المادة 18 من القانون رقم 42.10 المتعلق بقضاء القرب” [42]
وفي نفس الاتجاه جاء حكم آخر نص على أن “المحكمة بعد دراستها للنازلة لم يتبين لها قيام العناصر التكوينية من خلال الأفعال التي أتاها الظنين وبالمقابل اقتنعت بأن الأفعال التي اقترفها المتهم تقبل وصفا قانونيا آخر، وأن المحكمة الزجرية متى رأت أن وصف الجريمة المسطر من قبل النيابة العامة لا ينطبق على الأفعال المقترفة من قبل نفس الظنين فإنه يتعين عليها أن تعيد توصيف الأفعال موضوع التهمة وصفا قانونيا بحسب طبيعتها وأن تطبق المقتضيات التشريعية المناسبة للقضية خاصة وأن الشروط القانونية لإعادة التكييف ثابتة بشأن نازلة الحال ولا سيما على مستوى عنصري التناسب والمماثلة بين الفعلين الجرميين وأيضا على مستوى وضع القضية في إطارها القانوني والموضوعي السليم”[43]
وفي السياق ذاته قررت المحكمة الجنحية إعادة التكييف من جريمة عدم توفير مؤونة الشيك طبقا للمادة 316 من مدونة التجارة إلى جنحة النصب طبقا للفصل 540 من القانون الجنائي حيث جاء في تعليلاتها “أن المشتكي لما تقدم إلى البنك المسحوب عليه قصد استخلاص قيمة الشيك وأرجع إليه بدون أداء لكون الحساب مغلق منذ مدة حسب الثابت من الشهادة البنكية المرفقة بالملف يتبين معه أن المتهم سلم الشيك للمستفيد رغم أنه قام بإغلاق حسابه البنكي، وبالتالي لما عمد المتهم إلى سحب شيك وهو على علم بكونه قام بإغلاق حسابه لدى المسحوب عليه يكون قد استعمل طرق احتيالية أضرت بالمصالح المالية للمستفيد، وتبعا لذلك فإن الوصف الذي ينطبق على الجريمة هو جنحة النصب التي اقتنعت بها المحكمة وذلك بعد إعادة التكييف”[44]
وتجدر الإشارة إلى أن الضوابط والقواعد التي تطبقها المحكمة الجنحية تنطبق على جميع الهيئات المكلفة بالبث في القضايا الجنحية بما فيها الهيئات العاملة في محاكم الاستئناف كغرفة الجنح الاستئنافية باعتبارها مرجعا استئنافيا للمحاكم الابتدائية والغرفة الجنحية باعتبارها مرجعا استئنافيا لأوامر وقرارات قضاة التحقيق في المحاكم الابتدائية
كما أن الملاحظ أيضا في أغلب الأحكام الصادرة عن المحاكم الجنحية تكتفي عند تصريحها بإعادة التكييف ببسط العناصر التكوينية للأفعال الجرمية موضوع الوصف الذي أعطته جهة المتابعة وتحديد العناصر الأساسية التي تشكل الوصف الجديد الذي قررته المحكمة لهذه الأفعال دون الإشارة إلى أي نص قانوني يخول لها الحق في إعمال هذه الإمكانية باستثناء الإشارة إلى الضوابط التي قامت بمراعاتها كنفس زمرة الجرائم وإعادة التكييف من الفعل الأشد إلى الفعل الأخف ومراعاة حقوق الدفاع مع عدم التوسع في التكييف، مع العلم أن التوجهات التي تتبناها المحاكم الجنحية تبقى خاضعة للرقابة القضائية من حيث سلامة تطبيق القانون
.الفقرة الثانية: الرقابة القضائية عن إعمال آلية إعادة التكيف في الميدان الجنحي
إذا كانت الاشكالات المرتبطة بمسألة سلطة المحكمة الجنحية في إعادة التكييف تشكل نقطة خلافية في النقاش الفقهي والقضائي فإن حدود إخضاع هذه السلطة للرقابة القضائية من طرف محكمة النقض يجسد مدى قدرة السلطة القضائية على تجسيد مبادئ العدالة على أرض الواقع، لذلك أناط المشرع الجنائي بمحكمة النقض مهمة السهر على مراقبة تطبيق القانون بشكل صحيح من طرف محاكم الموضوع الزجرية إذ تمتد هذه الرقابة الى التكييف القانوني للأفعال الجرمية والوصف الممنوح من طرف سلطة المتابعة استنادا إلى المادة 518 من قانون المسطرة الجنائية[45]
لكن هذه الرقابة يجب ألا تتعدى المراقبة القانونية دون الموضوعية إذ يجب ألا تمتد الى حقيقة الوقائع التي تثبت لدى القاضي ولا إلى قيمة الأدلة التي حظيت باقتناعه الصميم إلا في الحالات التي يحدد فيها القانون ذلك، وبالتالي فرقابة محكمة النقض تنصب على مدى احترام الضوابط التي تعطي للمحكمة حق إعادة التكييف من جهة وعلى حدود سلطة المحكمة الجنحية من مباشرة هذه الصلاحية من جهة ثانية
وللوقوف على مقومات الرقابة القضائية على المحكمة الجنحية في إعمال صلاحية تغيير الوصف وإعادة التكييف سنتطرق إلى بعض القرارات الصادرة عن محكمة النقض – المجلس الاعلى سابقا – التي حددت التوجه القضائي العام في مسألة تعامل القضاء الجنحي مع إعادة التكييف وما إذا كان لتلك السلطة ضوابط وأسس قانونية من شأنها أن تؤدي الى تقييد صلاحية المحكمة بهذا الشأن
في هذا الإطار أكدت محكمة النقض أحقيتها في مراقبة التكييف لدى محكمة الموضوع، اذ جاء في أحد قراراتها ” أنه من اختصاص محكمة النقض الحق في مراقبة سلامة التكييف القانوني الذي أعطت محكمة الموضوع للوقائع معروضة عليها والتطبيق السليم للقانون وكذا سلامة اجراءات المحكمة[46]
كما إن قضاء النقض حسم النقاش بخصوص صلاحية المحكمة الجنحية بإعادة التكييف في الميدان الزجري لما اعتبر في أحد القرارات أن “المحكمة الجنحية مثل محكمة الجنايات لها الحق بتكييف الافعال المحالة عليها تكييفا قانونيا صحيحا وليست مقيدة بالمتابعة التي أعطتها جهة الاتهام في هذا المجال”[47]، وفي نفس السياق قرر أيضا أن “محكمة الموضوع غير ملزمة بالوصف الذي تعطيه جهة المتابعة للأفعال وأن لها الحق في تغيير هذا الوصف وإعادة تكييفه كلما ثبت لها ذلك بشرط تبرير وتعليل قناعتها”[48]
ليس هذا فقط بل إن قضاء النقض ألزم المحكمة الجنحية خلال إعادة التكييف القانوني للأفعال بإبراز الأدلة المعتمدة في التكييف الجديد وتعليل منطوق الحكم على أساس قانوني سليم مما يدل على أن محكمة النقض تبسط رقابتها القانونية على العناصر التي اعتمدتها المحكمة الجنحية للقول بإعادة التكييف لذلك كان لزاما على هذه المحكمة تعليل قرارتها بإعادة توصيف الأفعال المحالة عليها، حيث جاء في قرار النقض أن “محكمة الاستئناف لما أعادت التكييف وخلصت إلى أن وقائع القضية تنطبق عليها العناصر التكوينية لجنحة النشر والإذاعة بواسطة الخطب في أماكن عمومية تخل بالنظام العام وتثير الفزع بين الناس طبقا للفصلين 38 و42 من قانون الصحافة الصادر بتاريخ 15/04/1958 وقضت بإدانة المتهم من اجل ذلك ، لم تبرز معه العناصر الواقعية والقانونية للجنحة التي أدانت بها المتهم بما في ذلك بيان الادعاءات التي نسبت لهذا الاخير وسوء نيته في نشرها وما نتج عن ذلك من إخلال بالنظام العام، الأمر الذي يكون معه القرار بإعادة التكييف ناقص التعليل ومعرض للنقض والابطال”[49]
ويعني ذلك أن الرقابة القضائية لمحكمة النقض تنصب بالأساس على سلامة التعليل المتخذ من طرف محكمة الموضوع حيث أقرت في عدة قرارات إلزام محكمة الموضوع الجنحية بضرورة بيان الوقائع التي ارتكزت عليها في إعادة التكييف القنوني للأفعال والتي أدانت بها المحكوم عليه لمعرفة مدى صحة التكييف الجديد وقانونية العقوبة من طرف جهة الرقابة[50]
في هذا الإطار قضى قضاء النقض بإبطال القرار الاستئنافي الذي قرر تأييد الحكم الابتدائي الذي قام بإعادة تكييف الأفعال المنسوبة للمتهم بجنحة إخفاء مسروق والمشاركة في السرقة بدلا من الجنحة التي توبع من أجلها المتهم من طرف النيابة العامة و التي كانت تتعلق بإخفاء مسروق فقط[51]، واعتبر قرار النقض أن المحكمة الابتدائية أخطأت في حكمها المؤيد استئنافيا إذ أنها لم تكتفي بإعادة تكييف الوقائع وإنما أضافة جنحة أخرى وهي المشاركة في السرقة وبالتالي يكون قضاءها قد تجاوز صلاحية إعادة التكييف إلى إضافة جنحة جديدة مع العلم أن هذه الإمكانية غير مخولة للقضاء الجالس لأنه ليس جهة اتهام، وبالتالي لا حق له في إضافة جنحة أخرى إلى صك الاتهام المعروض أمامه، الشيء الذي يعني أن رقابة النقض كان لها التأثير الإيجابي في تحديد أسس إعادة التكييف في الميدان الزجري
وتجدر الاشارة إلى أن الرقابة القضائية التي تمارسها محكمة النقض على المحكمة الجنحية في إطار إعادة التكييف للوقائع الجرمية المعروضة أمامها كانت دائما مؤطرة للعمل القضائي حيث أنها كما قضت بنقض وإبطال الأحكام التي أخطأت في تفعيل هذه الألية قضت أيضا بتأييد بعض التوجهات الأخرى في إطار دورها الرامي الى تحديد الضوابط القانونية المتحكمة في هذه الإمكانية
وتماشيا مع هذا الطرح نجد مجموعة من القرارات التي قضت فيها محكمة النقض برفض طلب النقض المقدم أمامها بعلة أن القرار المطعون فيه قضى بإلغاء الحكم الابتدائي القاضي بإعادة التكييف من جنحة الارتشاء الى جنحة النصب دون بيان للخرق القانوني الذي استعملته محكمة أول درجة في تحديد ضوابط إعادة التكييف، ونلاحظ في هذا القرار أن محكمة النقض أقرت بكون سلطة المحكمة الجنحية في إعادة تكييف الأفعال المعروضة أمامها تحكمها مجموعة من الشروط والضوابط حسب ما يستشف من هذه الحيثيات الواردة بهذا القرار الذي جاء فيه “أن الحكم المستأنف لما قضى بمؤاخذة المتهم من أجل جنحة النصب بدلا من جنحة الارتشاء بعد إعادة التكييف وانتهى في تعليله إلى ثبوت أركان جنحة النصب طبقا للفصل 540 من القانون الجنائي يكون بذلك قد جانب الصواب لكون المحكمة وإن كانت تملك صلاحية إعادة التكييف فإن ذلك مقيد بشروط وفي نطاق لا يجوز التوسع فيه على اعتبار أن المحكمة هي جهة حكم وليست سلطة متابعة، فبالإضافة إلى أن إعادة التكييف في إمكانية لا تشمل الجريمة الأشد بالنسبة للجريمة موضوع المتابعة، فإنه أيضا يتعين أن تتم في إطار الجرائم المماثلة لجنحة المتابعة كأن تنتهي المحكمة إلى إعادة التكييف مثلا من جنحة السرقة إلى محاولة السرقة أو إلى المشاركة في السرقة ما دام أن الفصلي 114 و129 يعاقبان المحاولة والمشاركة بنفس العقوبة الأصلية، أو إلى إحدى الجرائم المماثلة في نفس العقوبة أو الأخف”[52]
وتكرس هذا التوجه أيضا في قرار آخر جاء فيه بأن “إعمال المحكمة لسلطتها في إعادة التكييف وإدانة المتهم من أجل جنحة التصرف في مال غير قابل للتفويت طبقا للفصل 542 من القانون الجنائي بدلا من جنحة النصب المنصوص عليها في الفصل 540 من نفس القانون كان مصادفا للصواب خاصة لما عللت المحكمة هذا الاجراء الذي اتخذته بكون الأرض التي قام المتهم ببيعها تدخل في نطاق الاراضي الجماعية طبقا للفصل 4 من ظهير 1919 حسب الثابت من الشهادة الادارية المدلى بها في الملف وبالتالي فالمتهم قام بتفويت أملاك غير قابلة للتفويت
.وهي جنحة تدخل في زمرة جرائم الاموال التي تنتمي إليها الجنحة التي توبع من أجلها”[53]
وهذا يعني أن محكمة النقض لما باشرت سلطتها في الرقابة تبين لها بأن المحكمة الجنحية أثناء نظرها في الدعوى المعروضة أمامها استعملت جميع الإمكانيات التي خولها القانون من سلطة وصف الأفعال المحالة عليها وإعادة تكييفها بالوصف الصحيح وبالتالي طبقت النص القانوني
.الملائم عليها حسبما استخلصت من دراستها للقضية
ومن القواعد التي أقرتها الرقابة القضائية على عملية إعادة التكييف أيضا نجد أن قضاء النقض اعتبر عدم التنصيص على الرقم الفصل المطبق في النازلة بعد إعادة التكييف لا يؤثر على صحة هذا الإجراء ما دامت المحكمة أشارت إلى الوصف الصحيح للفعل الجرمي التي أدانت به المتهم في إعادتها لتكييف هذا الفعل[54]، مما يعني أن العبرة في إعادة التكييف هي قيام المحكمة بتحديد الوصف القانوني للفعل المعروض أمامها وأن إغفالها لرقم الفصل المؤطر لهذا الفعل لا يؤثر على صحة العملية مادامت هذه الأخيرة تمت طبقا لجميع الضوابط القانونية المؤطرة
.لهذه الامكانية
وعموما، يمكن القول بأن الرقابة القضائية التي تمارسها محكمة النقض على قضاء الموضوع في مجال إعادة التكييف خلصت في أغلب نتائجها إلى قاعدة أساسية مفادها أن النظام القانوني المغربي لا يتضمن أي نص صريح يحجر على القاضي الجنحي ويغل يده في إخضاع ما
.يعرض عليه من نوازل ووقائع إلى وصفها القانوني الصحيح، بل إن الاجتهاد القضائي يفرض عليه إعمال هذه السلطة في إطار احترام تام لمبدأ الشرعية الجنائية على المستوى الموضوعي والاجرائي وفقا لضوابط محددة الغاية منهما تحقيق العدالة الجنائية
وعلى هذا الأساس أوجبت محكمة النقض على القاضي الجنحي شأنه في ذلك شأن القاضي الجنائي أن يبحث في جميع الوقائع المعروضة عليه بجميع عناصرها وأوصافها حتى يمكن له أن يعطيها التكييف القانوني السليم والصحيح وبالتالي فتجاهل هذا المبدأ يؤدي بالضرورة إلى
.الاخلال بمبادئ الانصاف والعدالة، على الرغم من النقاش الذي يمكن أن يثار بشأن الآثار التي يمكن أن تترتب عن تفعيل هذه الآلية
الفقرة الثالثة: الأثار المترتبة عن تفعيل آلية إعادة التكييف الجنحي
إن ممارسة المحكمة الجنحية لسلطة إعادة التكييف القانوني للأفعال تحكمها مجموعة من الضوابط التي تهدف إلى تحقيق الأمن القضائي، إلا أن ممارسة المحكمة لهذه الإمكانية يترتب عنها مجموعة من الأثار سواء على مستوى تحديد نطاق الطعون أو على مستوى تحديد أمد التقادم
- :فعلى مستوى تحديد نطاق الطعن
نجد أن المشرع الجنائي قرر مجموعة من الضمانات الممنوحة للمتهم من أجل إصلاح الأخطاء التي قد تشوب بعض الأحكام على مستوى تطبيق القانون، ويعتبر حق الطعن من أهم هذه الضمانات إلا أن إعادة تكييف الوقائع من طرف المحكمة الجنحية يثير التساؤل بخصوص الوصف الذي سيتم اعتماده في تحديد نطاق وموضوع الطعن، ومثال ذلك إذا قررت المحكمة إعادة التكييف وغيرت وصف الأفعال الجرمية من جنحة إلى مخالفة وقضت بإدانة المتهم من أجل ارتكابه لهذه المخالفة واقتصرت في معاقبته على الغرامة فقط ففي هذه الحالة هل سيتم
.تحديد نطاق الطعن على كون الفعل يعتبر جنحة أم سيتم تحديده على أساس أنه مخالفة
جوابا على هذا الإشكال يمكن القول بأن هذا الموضوع يجد سنده في المقتضيات التشريعية التي حسمت القول بأنه لا يمكن استئناف الأحكام الصادرة في المخالفات إلا إذا كانت قد قضت بعقوبة سالبة للحرية[55]، كما أن العمل القضائي استقر على كون الوصف الوحيد الذي يجب أن يكون محل اعتبار في تحديد نطاق طرق الطعن هو الوصف الذي أعطته جهة المتابعة وأقامت به الدعوى العمومية أول مرة وليس الوصف الذي أعطته المحكمة بعد إعادة التكييف وذلك حتى تتمكن المحكمة الأعلى درجة من مراقبة صحة الوصف الجديد ومدى انطباقه على الأفعال
.الجرمية المعروضة أمامها
- :أما على مستوى تحديد أمد التقادم
فمن المعلوم أن التكييف القانوني للجريمة القائم على تصنيفها الثلاثي جنايات وجنح ومخالفات يترتب عنه اختلاف قانوني في مدد التقادم بالنسبة لكل صنف من الجرائم سواء بالنسبة للدعوى العمومية أو بالنسبة للعقوبة، وهذا يعني أن المحكمة الجنحية إذا ما قضت بإعادة التكييف فإنها تكون ملزمة باحترام أمد التقادم المنصوص عليه قانونا لأن التقادم يعتبر من النظام العام[56]، أي أنها إذا ارتأت القول بأن الفعل المعروض أمامها يوصف بكونه جنحة فإنها تكون ملزمة باحتساب أمد التقادم المقرر في الجنح أما إذا وصفت الفعل بعد إعادة التكييف بأنه مخالفة فعليها
.أن تأخذ بمدة التقادم المحددة للمخالفات
وتجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن هذا التوجه حسمه القضاء على مستوى قرارات النقض حيث جاء في أحدها أنه “لا تتحدد مدة التقادم بالوصف الجنائي الذي أحيلت به الوقائع على المحكمة من طرف جهة الاتهام وإنما تحدد هذه المدة بطبيعة الوصف الذي انتهت إليه المحكمة بعد
.إعادة تكييفها لوقائع الدعوى”[57]
وهذا يعني أن هناك إجماع فقهي وقضائي على أن تحديد إعادة تكييف الأفعال المعروضة على القضاء لا يؤثر على مسألة التقادم وبالتالي لا يطرح أي إشكال بهذا الشأن نظرا لأن مدة التقادم الواجب احتسابها عند تقرير المحكمة إعادة تكييف الفعل المعروض أمامها تكون هي المدة
.الخاصة بالوصف الجديد الذي انتهت إليه المحكمة بصرف النظر عن الوصف الذي أثيرت به الدعوى العمومية من طرف جهة المتابعة
:خاتمة
تبين من خلال هذه الدراسة أن مبدأ إعادة التكييف القانوني للأفعال الجرمية المعروضة على المحاكم يعتبر عصب العمل القضائي حيث يقوم القاضي بمناقشته القضية مع أطرافها وتحديد الوصف القانوني المنطبق على الواقعة بتعديل أو تغيير الوصف الذي أعطته جهة الاتهام للفعل
.الجرمي متى رأى ذلك ضروريا وذلك وفقا لضوابط وأسس محددة
وفي هذا السياق عرفت مسألة منح صلاحية إعادة التكييف للقضاء الجنحي خلافا فقهيا وتشريعيا وقضائيا حيث برز تيار يدعوا للقول بأن المحاكم الجنحية غير معنية بهذه الآلية لأن المشرع الجنائي كان واضحا بإعطاء هذه الإمكانية حصرا إلى غرفة الجنايات دون غيرها وأنه إذا أحيلت وقائع بأوصاف خاطئة على القضاء الجنحي ما عليه إلا التصريح بالبراءة تكريسا لمبدأ الحياد، إلا أن هذا التيار لقي معارضة خاصة على مستوى التطبيق إذ أن المحاكم الجنحية تمسكت بصلاحية إعادة التكييف كواحدة من ضمانات المحاكمة العادلة وعدم إفلات الجناة من
.الجزاء الجنائي، وهي الصلاحية التي أكدها الاجتهاد القضائي المتواتر على مستوى قضاء النقض
[1] المقصود هنا كل من النيابة العامة والموظفون الذين سمح لهم المشرع بإقامة الدعوى العمومية والمتضرر عند تقديم الشكاية المباشرة وقاضي التحقيق خلال إصداره للأمر بالإحالة والغرفة الجنحية عند إلغائها لأمر قاضي التحقيق بعدم المتابعة وتقريرها المتابعة والإحالة على
.المحكمة المختصة
[2] وذلك من خلال الفقرة الأولى من المادة 432 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها على أنه ” لا ترتبط غرفة الجنايات بتكييف الجريمة المحال عليها، ويجب عليها أن تكيف قانونيا الأفعال التي تحال إليها، وأن تطبق عليها النصوص الجنائية المتلائمة مع نتيجة بحث القضية
“.بالجلسة
[3] المقصود هنا بالقضاء الجنحي جميع الهيئات الجنحية بالمحاكم الابتدائية كقضاة الأحكام وقضاة التحقيق وقضاة الأحداث والغرفة الاستئنافية لدى هذه المحاكم باعتبارها مختصة بالبت في الطعون المقدمة ضد الأحكام الابتدائية المتعلقة بالجنح الضبطية، بالإضافة إلى الهيئات
.القضائية المختصة بالبث في القضايا الجنحية بمحاكم الاستئناف مثل غرفة الجنح الاستئنافية بمختلف أصنافها باعتبارها مرجعا استئنافيا مختصا بالبت في الطعون المقدمة ضد الأحكام الابتدائية المتعلقة بالجنح التأديبية والغرفة الجنحية باعتبارها الجهة الاستئنافية لقضايا التحقيق
.[4] François Paul blanc : ”la qualification des infractions” le revue de droit pénale N° 11 ; année 1987 ; p : 87
.[5] أحمد الخمليشي: “شرح قانون المسطرة الجنائية” (الجزء الثاني) مطبعة العارف الجديدة بالرباط الطبعة الثانية سنة 1999، ص:25
.[6] يوسف وهابي: “إعادة التكييف الجنائي وحقوق الدفاع على ضوء قانون المسطرة الجنائية الجديدة” مقال منشور بمجلة محاكمة العدد الثاني، سنة 2005، ص:99
.[7]عبد الحميد الشورابي: “سلطة المحكمة الجنائية في تكييف وتعديل وتغيير وصف الاتهام بين الفقه والقضاء”، مطبعة المعارف بالقاهرة، الطبعة الأولى سنة 1989 ص 21
.[8] François Paul blanc : op, cit ; p : 89
.[9] جواد الإبراهيمي: “التكييف القانوني للدعوى الجنائية – دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، سنة 2004، ص: 195
.[10] عبد الحميد الشورابي: مرجع سابق، ص: 21
.[11] François Paul blanc : op, cit ; p : 96
.[12] يوسف وهابي: مرجع سابق، ص: 98
.[13] Roger Merle et AndréVitu : “Traité de droit criminel : problèmes généraux de la Science Criminelle” 7éme éd ; Cujas ; Paris ; année 1997 ; p :60
.[14] محمد علي سويلم: “التكييف في المواد الجنائية: دراسة مقارنة”، دار المطبوعات الجامعة بالإسكندرية، الطبعة الأولى، سنة 2005، ص: 81
.[15] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بشفشاون بتاريخ 05/03/2020 في الملف الجنحي عدد 403/2105/2018
.[16] قرار صادر عن المجلس الأعلى تحت عدد 29/2000 بتاريخ 13 يناير 2000 في الملف الجنحي عدد 9338/1996/8
.[17] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بشفشاون بتاريخ 28/11/2019، في الملف الجنحي عدد 216/2105/2018
.[18] حميد ميمون: ” المتابعة الزجرية واشكالاتها العملية ” مطبعة بني ازناسن، الرباط، الطبعة الأولى سنة 2005 ص 224
.[19] العربي محمد مياد: “تأثير جائحة كورونا عن الوصف القانوني لجنحة السرقة” تعليق على حكم منشور بموقع العلوم القانونية www.Marocdroit.com بتاريخ 13 أبريل 2020
.[20] قرار صادر عن المجلس الأعلى تحت عدد 535/84 بتاريخ 19 يناير 1984 في الملف الجنحي عدد 10509/1983
.[21] قرار صادر عن المجلس الأعلى تحت عدد 2732 بتاريخ 18 شتنبر 2002 في الملف الجنحي عدد 26529/3/6/2002
.[22] محمد علي سويلم: مرجع سابق، ص: 92
.[23] Roger Merle et AndréVitu : op.cit ;p :67
.[24] قرار عدد 361 صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 8 فبراير 2006 في الملف الجنحي عدد 24722/2005
.[25] عبد الحكيم الحكماوي: “التكييف وإعادة التكييف كآلية لتحقيق العدالة الجنائية” مقال منشور بمجلة العلوم الجنائية، العدد الثامن، سنة 2021، ص: 199
“.[26] تنص المادة 319 من قانون المسطرة الجنائية على أنه “يستجوب الرئيس المتهم عن هويته ويخبره بالتهمة الموجهة إليه
.[27] الحسن بوقيين: “تغيير الوصف وتعديل التهمة” مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 66، ص: 43
.[28] محمد نور عبد الهادي شحاتة: “سلطة التكييف في القانون الاجرائي”، منشورات دار النهضة العربية بالقاهرة، الطبعة الثانية، سنة 1993، ص: 38
.[29] قرار صادر عن المجلس الأعلى تحت عدد 324 بتاريخ 11/02/2004 في الملف الجنحي عدد 12309/3/6/2003
.[30] محمد نور عبد الهادي شحاتة: مرجع سابق، ص: 45
.[31] قرار صادر عن محكمة النقض المصرية سنة 2004 أورده: عبد الحي وردي في مؤلفه “تعليل الأحكام الجنائية ومتطلبات الأمن القضائي” مكتب دار السلام للطباعة والنشر بالرباط، الطبعة الأولى، سنة 2021، ص: 21
.[32] عبد الكبير طبيح: “لا سلطة للمحكمة في تغيير التكيف الذي تعطيه النيابة العامة” مقال منشور بمجلة المحاكم المغربية، العدد 32، غشت 1984، ص:1
.[33] عبد الحكيم الحكماوي: مرجع سابق، ص: 198
.[34] Gilbert Azilbert :” code de procédure pénale” 18eme édition ; Litec Lexis-Nexisx, paris, France ; année 2009, p: 103
.[35] إدريس طارق السباعي: “قانون المسطرة الجنائية بين النظرية والتطبيق” مطبعة الصومعة بالرباط، الطبعة الثانية، سنة 1994، ص: 24
.[36] L’article 351 de la procédure pénale française
.[37] المادة 307 من قانون الاجراءات والمرافعات الجنائية
“.[38] تنص المادة 1.386 من مشروع قانون المسطرة الجنائية على أنه “يمكن للمحكمة أن تغير تكييف الجنحة موضوع المتابعة إلى جنحة من الصنف نفسه إذا انطبقت عليها العناصر القانونية المكونة للجريمة موضوع الوصف الجديد
.[39] يوسف قجاج: “مدى صلاحية القاضي الجنائي لإعادة التكييف” مقال منشور بموقع صوت العدالة بتاريخ 14 مارس 2018
.[40] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بشفشاون بتاريخ 27/07/2017 في الملف الجنحي عدد 1445/2016
.[41] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بشفشاون بتاريخ 29/03/2018 في الملف الجنحي التلبسي عدد 28/2017
.[42] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بشفشاون بتاريخ 14/03/2011 في الملف الجنحي عدد 215/2018
.[43] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بتطوان بتاريخ 17/04/2009 في الملف الجنحي عدد 1897/2005/2
.[44] حكم صادر عن المحكمة الابتدائية بمكناس صادر بتاريخ 21/06/2006 في الملف الجنحي عدد /1653/2006
.[45] تنص المادة 518 من قانون المسطرة الجنائية على أنه “تتولى محكمة النقض النظر في الطعون بالنقض المقدمة ضد الأحكام الصادر عن المحاكم الزجرية، وتسهر على التطبيق الصحيح للقانون، وتعمل على توحيد الاجتهاد القضائي
.”تمتد مراقبة محكمة النقض إلى التكييف القانوني للوقائع المبنية عليها المتابعة الجنائية، لكنها لا تمتد إلى الوقائع المادية التي يشهد بثبوتها قضاة المحاكم الزجرية، ولا قيمة الحجج التي أخذوا بها ما عدا في الحالات المحددة التي يجيز فيها القانون هذه المراقبة
.[46] قرار عدد 9142 صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 22 نونبر 1990 في الملف الجنحي عدد 22449/1989
.[47] قرار عدد 535 صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 19 يناير 1984 في الملف الجنحي عدد 10509/1984
.[48] قرار عدد 2732 صادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 18 شتنبر 2002 في الملف الجنائي عدد 26529/3/6/2001
.[49] قرار صادر عن محكمة النقض سنة 2013 أشار إليه حسن فتوخ في مقاله “دور القضاء المغربي في حماية حرية الصحافة” منشور بالموقع الإلكتروني: www.manabirpress.com
[50] من القرارات الصادرة بهذا الشأن نجد على سبيل المثال: القرار عدد 3672/2002 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 28 نونبر 2002 في الملف الجنائي عدد 1083/6/7/2002، والقرار عدد 1027/2018 الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 04 أكتوبر 2018 في الملف الجنحي عدد 4709/6/11/2017
.[51] القرار عدد 5331 الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 28 دجنبر 2011 في الملف الجنحي عدد 1060/2011
.[52] القرار عدد 828 الصادر عن محكمة النقض بتاريخ 10 يونيو 2015 في الملف الجنحي عدد 4230/2015
.[53] القرار عدد 2483 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 24 دجنبر 1997 في الملف الجنحي عدد 2732/1995
.[54] القرار عدد 361 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 8 فبراير 2005 في الملف الجنائي عدد 24722/2005
.[55] الفقرة الأولى من المادة 396 من قانون المسطرة الجنائية
:.[56] تنص المادة 5 من قانون المسطرة الجنائية على أنه: “تتقادم الدعوى العمومية، ما لم تنص قوانين خاصة على خلاف ذلك بمرور
خمس عشرة سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجناية-
أربع سنوات ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب الجنحة-
سنة ميلادية كاملة تبتدئ من يوم ارتكاب المخالفة-
.[57] القرار عدد 866/08 الصادر عن المجلس الأعلى بتاريخ 29 أكتوبر 2008 في الملف الجنائي عدد 6133/2008